الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

قصـــــة الكهربائى


الكهـــربائى

قصة محمود البدوى

كان عندنا خادم صغير فى البيت اسمه حسن .. وكان عمله مقصورا على شراء الأشياء من السوق .. إذ لم يكن يصلح لشىء سوى هذا .. ولكن هذا العمل البسيط لم يكن يؤديه حتى على أسوأ وجه .. وليس ذلك لأنه كان يسرق .. فقد كان مثالا يحتذى فى الأمانة .. وإنما لأنه كان يخرج فى الساعة السابعة صباحا ليجىء بالافطار .. فلا يعود إلا قرب الظهر .. وكان سوء تصرفه هذا يقع على عاتق زوجتى المعذبة وحدها .. لأننى أتناول فنجانا من القهوة وأخرج إلى رياضة الصباح .. وأولادى يأخذون السندوتش ويذهبون إلى المدرسة .. وتبقى المسكينة وحدها ترقبه من الشرفة .. ولبها مستطار .. وتتحول بكليتها إلى عينين ترقبان أى شىء أسود يتحرك فى الطريق .. وكانت تحدث نفسها :

ـ أهو جاى .. بس لما يورينى وشه ..

وتهىء نفسها لتستقبله بالكف .. ولكن لايكون هو .. وتظل فى البيت تدور كالنحلة وتأكل نفسها من الغضب ..

وعندما يجىء تكون قد بردت كالثلج .. واستسلمت لليأس التام .. وتحولت عاطفتها من الغضب عليه إلى الخوف على مصيره .. وعندما يقرع الباب .. وتراه ممسكا بالسلة الفارغة كما خرج بها تسأله فى صوت خافت :

ـ كنت فين يا حسن ..؟
ـ الفلوس وقعت يا ست ..

وهو لايكذب فى هذا ففى سبع حالات من تسع يحدث له هذا .. ويحدث بترتيب ونظام ! كأحدث النظريات الفلكية !.

وكنت عندما أرى زوجتى فى البيت وهى تقفز من النافذة إلى الشرفة .. إلى الباب .. فى لهفة وقلق لاستقباله .. أقول لها :

ـ لاتشـغلى نفسـك به .. ولاداعى لأن تكلفيه بهذا المشوار ..
ـ أنا بس خايفة .. أحسن ياكله الترمواى .. مسكين .. يتيم ..

وهكذا تتحول عاطفتها من النقمة عليه إلى الشفقة به .. ولم أعجب فقد ورثت هذه الطباع الحميدة من والدها ..

***

ولم يكن حسن يفعل أى شىء غير مقبول فى السوق .. لأنه كان لايذهب إلى السوق على الاطلاق .. وانما يجد أى ولد فيجره إلى الحديقة العامة .. وهناك يجلسان تحت الشجرة .. ويضع السلة بجانبه ويخرج من جيبه حدوته من التى تباع بنصف القرش ويقرأ ويتحدث مع الغلام حتى ترتفع شمس الضحى ..

فقد كانت عنده لذة عارمة فى أن يقرأ هذه الحواديت ويقص ما فيها على الناس .. كان يتحدث إلى البواب .. والمكوجى .. وبائع الثلج .. والخبز .. والخضار .. ويعطل هؤلاء جميعا عن عملهم .. ورغم كل هذه المساوىء فإنه بقى فى بيتى .. لأن قطع اللقمة عن جائع يتيم .. أهون من قتل النفس ..

ولكن حدث ما لم يكن فى الحسبان .. فقد أصبحنا ذات يوم .. وإذا بحسن يطول نصف ذراع .. ثم أصبحت قامته تمتد ثلاث بوصات يوميا .. دون انقطاع .. وهذا الشىء مروع .. وأصبح ينحنى وهو داخل من الباب الخارجى .. ثم أصبح لايستطيع الدخول على الاطلاق .. وكنت أرى هذا الطول المفاجىء وأغرق فى الضحك وأتألم ..

ورأيت أن الحقه بعمل عند صديق لى يملك مصنع نسيج كعامل أو مخزنجى .. وقال لى الصديق .. ان حسن أفسد عمال المصنع جميعا . إذ أنهم يلتفون حوله .. ويأخذ هو يقص عليهم من أحاديثه .. حتى خلب البابهم .. وأخيرا اشتغل فراشا فى بنك من البنوك .. وانقطعت الشكوى منه .. ولكنه لم ينقطع عن زيارتنا إذ كان يزورنا بانتظام فى يوم الأحد وهو يوم راحته ..

***

وحدث أن تعطل الجرس الكهربائى فى البيت .. فقلت للخادمة أن تذهب وتجىء بالكهربائى الذى على ناصية الشارع فسمعتنى زوجتى وقالت :

ـ استنى يا بنت .. حسن جاى بكره ..

فسألت فى استغراب :
ـ حسن مين ..؟
ـ حسن بتاعنا ..
ـ حسن .. لكن ماعلاقته بالكهرباء ..
ـ دا بقى كهربائى مدهش ..

وقرأت على وجهى الانكار ..

فقالت :
ـ بكره حيصلح الجرس قدامك ..

وجاء حسن .. ونظر إلى الجرس ولم يكن فى حاجة إلى سلم .. وعالجه .. ودق .. كما عالج المكواة المتعطلة فكوت .. وعندما أصلح مفتاح الصوت للراديو .. آمنت ببراعته ..

***

وأصبح حسن هو الكهربائى الخاص بنا .. فكانت زوجتى تكلفه بأن يغير المصابيح ويركب " برايز " جانبية لكل حجرة .. كما ركب لمبة " سهارى " فى الصالة .. وفى المطبخ .. وفى كل اسبوع كنت أجد تغييرا .. فقد أصبحت العملية .. سهلة .. وأصبحت الدورة الكهربائية فى البيت هى شغل زوجتى الشاغل ..

وذات يوم جئنا بنجفة كريستال جديدة وركبناها فى الصالة .. ولكننى وجدت هذه النجفة منقولة فى اليوم التالى إلى غرفة الصالون .. وفهمت من زوجتىأنها رأت أن تنقلها إلى الصالون لتناسب الطقمم .. وتنقل نجفة الصالون إلى الصالة .. وعلمت طبعا أن الذى قام بهذه العملية هو حسن الكهربائى الخاص .. ولم أعر المسألة أهمية .. وإنما فكرت فى التطور الذى يحدث للإنسان .. فإن هذا الغلام البليد الخامل الثرثار .. قد تطور .. وأصبح كهربائيا ممتازا معتمدا على ذكائه فقط .. فهو لم يتعلم هذا الفن فى مدرسة ! ومن يدرى ربما يصبح أمرسن آخر .. او جراهام بل .. أو حتى استفنسون .. يجب ألا نيأس من صلاحية أى إنسان للحياة .. كنت أحاور نفسى بهذا ومثله وأنا جالس مع زوجتى وأطفالى وقد جمعتنا الشرفة فى الليلة التاسعة من رمضان .. عندما سمعنا دويا وانفجارا أعقبه ظلام تام فى البيت فقد سقطت النجفة التى ركبها حسن ولم يبق منها شىء .. وحمدت الله على أن الخادمة كانت بالرضيع فى المطبخ بعيدا عن مكان الانفجار ..
=================================
نشرت القصة بصحيفة الجمهورية فى 361955 وأعيد نشرها فى مجموعة الأعرج فى الميناء 1958
=================================

ليست هناك تعليقات: