الاثنين، ٢٠ نوفمبر ٢٠٠٦

قصة الجوهرة


الجـوهرة

قصة محمود البدوى

كان السيد إبراهيم شابا وسيما فى الثلاثين من عمره ومتزوجا حديثا من فتاة جميلة ومتعلمة مثله .. وكانا يقيمان فى القاهرة فى شقة أنيقة بحى قصر النيل قريبا من محل عمله .. فقد كان الزوج موظفا فى بنك الاتحاد التجارى .

فلما حل الصيف هذا العام بلهيبه أشفق على زوجته العروس الرقيقة من شدة الحرارة .. وطلب أجازة لمدة شهر .. وسافر بصحبتها إلى الإسكندرية .

وانقضى الأسبوع الأول من الإجازة فى متعة هنية .. والزوجان يتصوران من فرط السعادة أنهما رجعا إلى شهر العسل .. ثم جاءت برقية ذات ليلة .. تنبىء بمرض والد العروس وخطورة حالته ..

وجمعت الزوجة جواهرها فى حقيبة صغيرة .. وتركت كل شىء آخر فى الشقة المستأجرة .. وانطلقت مع زوجها تهرول إلى محطة سيدى جابر وهى تحس برجفة الخبر .. وتتوقع تطور الحالة وتقدر أنها ستصل بعد فوات الأوان .. وأنها لن ترى والدها وهو يموت ..

فتأثر الزوج وهرول إلى داخل المحطة .. ولكنه وجد قطار الديزل الأخير محجوزا كله .. ولا مكان حتى للوقوف .. فخرج مستاء ليخبر زوجته .. وفى تلك اللحظة تقدم إليه شخص ليدله على تاكسى مسافر إلى القاهرة فى الحال ..

ومشى إبراهيم مع زوجته دون تفكير وراء الدليل .. فقد كانا يودان السفر فورا بأية وسيلة .. وقادهما الدليل إلى مكان توجد به سيارة " تاكسى " خالية وكانت واقفة فى جانب من الطريق .. فركبا فى الحال ..

ـ الأجرة جنيه يا بيه ..

فقالت السيدة على الفور ..
ـ خذ ما تريد بشرط أن تتحرك حالا .. نحن فى عجلة ..

وفى اللحظة التى هم فيها السائق بالتحرك جاء راكبان آخران ودخلا فى جوف العربة ثم راكب ثالث .. وهكذا .. أصبح الركاب خمسة واتخذت العربة سبيلها فى الطريق الصحراوى وهى تنهب الأرض نهبا ..

***

وبعد أن خرجت السيارة من منطقة البحيرات واستوت فى قلب الصحراء .. نظر إبراهيم إلى وجوه الركاب لأول مرة وتفرس فى سحنتهم .. فلاحظ أن الراكب بجانبها فى المقعد الخلفى كئيب السحنة ويحمل وجه شرير .. وأن الراكبين الآخرين الجالسين فى المقعد الأمامى بجوار السائق من نفس الطينة .. ويلبسون جميعا بدلات من نسيج واحد ودون رباط عنق وأن الثلاثة يكونون عصابة تهرب المخدرات فى الليل أو تقطع على الناس الطريق .. وعجب كيف غفل عن هذا قبل أن تتحرك بهم السيارة .. ونظر إلى زوجته ليقرأ سوانح فكرها .. فى هذه اللحظة .. فرآها تحرك يدها على الحقيبة الصغيرة وتخفيها بثوبها وجسمها فى الجانب الأيسر بعيدا عن عيون الركاب ..

ولم يحدثها بشىء .. وأشعل سيجارة ليخفى انفعالات نفسه .. وكان فى كل لحظة ينظر فى الظلام إلى وجه الراكب الذى عن يمينه ليطبع صورته فى ذهنه .. حتى إذا حـدث شىء استطاع أن يصفه بدقة !!

وحاول كذلك أن يرى وجهى الراكبين الجالسين فى المقعد الأمامى بجانب السائق .. التقط الصورة بعدسة عينه كأنها فوتوغرافيا لاقطة .. مرة من الجانب الأيمن ومرة أخرى من الجانب الأيسر .. ومرة ثالثة من الخلف ..

وكانت أقفية الثلاثة واضحة .. إذا أضفنا السائق .. وكذلك شحمة آذانهم .. وكانت أذن الذى على يمين السائق كبيرة ومفرطحة كأذن الشامبانزى .. وكانت هناك ضربة بحد الموسى .. تحت الأذن مباشرة ملتئمة .. ثم تركت أثرا ظاهرا .. خط أسود محروق الجلد ..

وزاد هذا من خوف إبراهيم .. وجسم توقعه الشر ..

وكان الليل فاحما شديد السواد .. والصحراء تبدو رهيبة وصامتة وموحشة فى الظلام .. وسرى صمتها إلى الركاب جميعا .. فلم يتبادلوا كلمة واحدة ..

وكان إبراهيم من خلال السيجارة التى لم تبرح فمه يلقى بكلمة كالهمس فى أذن زوجته من حين إلى حين .. وكانت خائفة مثله وحزينة وزاد الحزن من خوفها ..

وكانت هذه أول مرة تركب فيها سيارة أجرة مع غرباء .. ومع غرباء فى الليل ومعها كل الجواهر التى تملكها .. تحمل ما يزيد ثمنه على الف من الجنيهات وتنطلق به فى الليل .. إنها مجنونة .. لماذا لم تترك الحقيبة هناك فى الإسكندرية .. فإن تسرق هناك .. خير من أن تسرق هنا فى الصحراء وتقتل هى ويقتل زوجها ..

وكان الرجال الأربعة يدخنون .. حتى السائق أشعلوا له سيجارة .. وهى وحدها جالسة صامتة .. لاتستطيع أن تفرج عن أعصابها بشىء ما ..

وكان الليل الشاحب يلف كل شىء فى شملته .. والريح تصفر .. وسمعت عواء كعواء الذئب .. يأتى من حين إلى حين مختلطا مذابا فى صوت الريح ..

وكانت الرمال ساكنة لاتحركها الريح أبدا .. وأعمدة التليفون تبدو صامتة وفى مثل حزنها تتلقى المصير فى الليل الشاحب ..

وفجأة أحسوا بضربة شديدة كأن شيئا سقط من محرك السيارة إلى الأرض وخف دوران المحرك ثم تعطل تماما ..

ونزل السائق ودار حول العربة ثم رفع غطاء المحرك .. وأخذ يعالجه على ضوء البطارية .. ونزل بعده الركاب الثلاثة وبقى إبراهيم وزوجته فى داخل العربة .. ونظر إبراهيم إلى الظلام حوله والسكون المخيم وأدرك أنهم اختاروا المكان المناسب لفعلتهم فشحب وجهه وتصبب من جسمه العرق ..

وشاهد الرجال الثلاثة يتحدثون فى جانب من الطريق فأدرك أنهم يتآمرون على التخلص منه هو .. فمال على أذن زوجته
ـ الأحسن أن نخرج من السيارة ..
فقالت له :
ـ أبدا .. لن أخـرج .. لو خرجـت سيرون الحقيبة .. ويسرقونها ..
ـ جلوسنا هنا خطر ..
ـ أبدا .. وأين نذهب على الرمال .. أبدا .. سأظل مع الحقيبة .. أخرج أنت ..

وبقى الزوج بجانبها .. وهو يشعر بالغيظ فقد كانت هذه أول مرة تخالفه فيها ولا تنـزل عند رأيه ..وعجب لأن تفكيرها كله محصور فى الجواهر .. ولا يخطر على بالها أى شىء آخر .. وأدرك الآن مسؤليتة كزوج لأول مرة .. فإنه مسئول عنها وعن حمايتها من كل ما تتعرض له قبل أن يحمى نفسه ..

وعرف أن عيون الرجالة الثلاثة الآن على زوجته الجميلة .. وأنها بجمالها فتنتهم .. ودبروا الأمر مع السائق .. ليقف فى جوف الصحراء لتكون لديهم الفرصة .. ولكنه سيخنقهم جميعا قبل أن تمتد يد إلى زوجته .. سيخنقهم جميعــا .. وأحس بنفسه يرتعش وهو جالس من فرط الانفعال ..

وسألته زوجته :
ـ مالك ؟
ـ لاشىء ..
ـ اطمئن .. الحقيبة لم يرها واحد منهم ..

وزادته غفلتها استياء ! .. وأخيرا مرت سيارة كبيرة فأشار إليها سائق التاكسى فتوقفت وتعاون السائقان على إصلاح المحرك ..

وأسرعت سيارة التاكسى إلى القاهرة دون أن تتوقف فى الاستراحة لتعوض مافات .. وكانت السيارة الكبيرة تسير وراءهم ولا تتقدم عليهم .. كأنها مستعدة لنجدتهم إذا حدث عطل آخر ..

وتنفس إبراهيــــم الصعداء لما اقتربوا من منطقة الأهرام ..

وفى ميدان الجيزة نزل الركاب الآخرون وبقى وحده مع زوجته ..

وسألته زوجته بصوت خافت :
ـ لاحظت عليك الاضطراب فى طريق الصحراء .. هل كنت تخاف على الجواهر ..
ـ لا .. لم أكن أفكر فيها قط ..
ـ وعلام الخـوف إذن ؟ لقد لاحظت ذلك على وجهك فلا تنكر ..
ـ كنت أخاف على جوهرة واحدة ..
ـ جوهرة واحدة ؟ ..
أجل جوهرة واحدة .. لاتعوض أبدا .. وأمسك بها الآن ..

وأمسك بيدها .. ففهمت أخيرا .. وابتسمت .. وضغطت على يد زوجها .. وهى تشعر بفرحة غامرة ..
=================================
نشرت القصة فى مجلة الجيل المصرية فى 27111961 وأعيد نشرها بمجموعة عذراء ووحش 1963 لمحمود البدوى
=================================



ليست هناك تعليقات: